14 ديسمبر 2019
كلمة سمو الأمير المفدى في افتتاح منتدى الدوحة 2019
أصحاب الفخامة والمعالي والسعادة،
السيدات والسادة،
أرحب بكم جميعاً في منتدى الدوحة، المنصة التي أنشأناها منذ تسعة عشر عاماً للحوار وتبادل الأفكار.
في تلك المرحلة بدأ الحديث عن مستقبل أفضل للبشرية بانتهاء نظام المعسكرين والحرب الباردة، وأصبح بالإمكان الحديث عن أهداف الألفية، وتلتها أهداف التنمية المستدامة، وبدا العالم واستشرافُنا لمستقبله أكثر تفاؤلاً.
وكانت مفاهيم المجتمع الدولي والشرعية الدولية والمسؤولية المشتركة والعمل المتعدد الأطراف هي الصاعدة. فأين نحن اليوم من كل هذا؟
لقد مالت الدفّة لصالح الرؤى المشككة بأهمية المسؤولية المشتركة والقانون الدولي كمرجعية جامعة، مما فسح المجال لفعل قانون القوة على الساحة الدولية بدلاً من العمل على تعزيز قوة القانون.
يجب البحث عن مواطن الخلل التي جعلت الكثيرين يفقدون إيمانهم بنجاعة النظم والآليات الأممية القائمة، بما في ذلك ازدواجية المعايير. كما يجب تكثيف الجهود المخلصة في وضع تصورات جديدة للمرحلة القادمة، ولا سيما بعد أن بانت عواقب التخلي عن الشرعية والقانون الدوليين في أكثر من مكان، بما في ذلك منطقتنا. وهو الأمر الذي ركّز عليه تقرير منتدى الدوحة لهذا العام تحت عنوان “إعادة تخيل الحوكمة في عالم متعدد الأقطاب”.
ليس واضحًا بعد إذا كان ما جرى منذ تلك المرحلة هو انتقال من أحادية القطب إلى تعدد الأقطاب، أم هو حالة من التشظي وتنصل الدول الكبرى من مهامها ومسؤولياتها.
ولو كان الوضع مجرد تعدد للأقطاب، لما كانت ثمة مشكلة. فتعدد الأقطاب لا يمنع التكامل في الأدوار وقد يغني العلاقات الدولية بزوايا نظر مختلفة؛ أما إذا ترجم إلى مجرد صراع على النفوذ بين محاور من دون مسؤوليات كونية متفق عليها ورؤى لمصلحة العالم، فإن ذلك يُعَدُّ تراجعا حتى عن مرحلة القطبين حين تنافس تصوران لعالم أفضل في ظل ردع متبادل.
لقد تشوشت الرؤية الأممية المشتركة التي بدت واضحة في بداية الألفية الجديدة، سواء لناحية الشرعية الدولية وقضايا الفقر والبيئة والمناخ، أم فيما يتعلق بمحاسبة مجرمي الحرب.
لكن المشكلات والتحديات بقيت هي نفسها، ومشاكل البيئة والمناخ تتفاقم، ولم تحل قضية الفقر المزمن في مناطق شاسعة في العالم، وكذلك قضايا الاحتلال وضم أراضي الغير بالقوة. وكما تعلمون ثمة علاقة وطيدة بين الفقر والحروب وتفاقم قضايا اللجوء والهجرة. كما استفادت ميلشيات مسلحة من صراعات المحاور، وتعقدت عملية محاسبة مجرمي الحرب.
هذه مشاكل لا يمكن حلها من دون جهود دولية منسقة ورؤى مشتركة، ومثلها قضايا التطرف العنيف الذي لا يقتصر على دين أو عرق كما لا يفرّق في استهدافه للأبرياء بناء على النوع أو العنصر أو الملة.
لقد آلينا على أنفسنا، هنا في قطر، أن لا نكتفي بنقد هذا الواقع وأن نحاول الإسهام في الإجابة على هذه الأسئلة، ولو جزئيا. فبالإضافة إلى سياساتنا القائمة على احترام القانون الدولي والشرعية الدولية والإسهام في حل النزاعات سلميا عبر الوساطة وتوفير فضاء للحوار، قمنا كذلك بإنشاء منصات مثل منتدى الدوحة ومؤتمر حوار الأديان الذي أطلقناه منذ 16 عاما لبناء جسور الحوار. وشهدت الدوحة خلال هذه السنة فقط مؤتمرات دولية مهمة مثل لقاء الاتحاد البرلماني الدولي والمؤتمر الدولي للإعاقة والتنمية والذي أقيم الأسبوع الماضي بالتعاون مع الأمم المتحدة.
أما على المستوى الإغاثي والتنموي فقد أعلنَّا على هامش انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر الماضي تخصيص مبلغ 100 مليون دولار للدول الجزرية الصغيرة لمواجهة تغير المناخ، كما تعهدت دولة قطر بتعليم مليون طفلة في مناطق النزاعات بحلول العام 2021. هذا بالإضافة إلى جهود المؤسسات القطرية غير الربحية إذْ تعمل مؤسسة التعليم فوق الجميع وحدها علىى تعليم عشرة ملايين طفل في مناطق النزاعات حول العالم، وهذا جهد متواضع في عالم فيه حوالي 262 مليون طفل حول العالم خارج المؤسسات التعليمية، هذا بالإضافة إلى مناطق النزاعات التي فيها 27 مليون طفل محرومين من حقهم الأساسي في التعليم. ولكننا نقوم بدورنا.
ويسهم صندوق قطر للتنمية سنويا بحوالي 600 مليون دولار لصالح مشروعات إغاثية وتعليمية وصحية في حوالي 59 دولة في جميع القارات. كما أن قطر الخيرية أسهمت بحوالي 400 مليون دولار لصالح مشروعات تنموية استفاد منها حوالي عشرة ملايين إنسان في 50 دولة. أما مؤسسة صلتك المعنية بالتمكين الاقتصادي للنساء والأطفال لاسيما في الشرق الأوسط وأفريقيا فقد مكنت حوالي 1,6 مليون طفل وامرأة حتى اليوم، كما تستهدف المؤسسة تمكين 5,8 مليون طفل وامرأة بحلول 2022.
لا شكّ أن هناك الكثير من التحديات الصعبة التي تواجه البشرية، إلاّ أن هناك أيضاً الكثير من الخير والعطاء والإخلاص والعزيمة والابتكار التي يمكن التعويل عليها، لذا فإن علينا جميعا أن نحتفي بالخير والإنجازات الإنسانية أينما وجدت.
لهذا الغرض تحديداً يسرني اليوم أن نبدأ تقليداً جديداً في تكريم شخصية عالمية في هذا المنتدى.
تعدّ شخصية هذا العام مثالاً يحتذى به في الحكم الرشيد. فقد استطاع أن يحقق نقلة نوعية هائلة في الاقتصاد والتعليم والإنتاج في بلده كما أنه كافح ضدّ الطبقية الاجتماعية ليجعل التعليم والصحة حقا لجميع أبناء وطنه وتعزيز التعايش الديني والسلم المجتمعي، فضلا عن مكافحة الفساد ووقوفه مع القضايا العادلة حول العالم، والعزيمة التي لا تعترف بالزمن ولا بالعمر. فنحن دون مبالغة نقف أمام شاب بكل ما يعنيه الطموح والإنجاز والمثابرة من معنى وإن تجاوز عمره التسعين ربيعاً نحن نقف أمام شيخ بكل ما تعنيه الحكمة والبصيرة والصبر.
السيدات والسادة،
نكرم هذا العام الأخ العزيز معالي الدكتور مهاتير محمد، رئيس وزراء ماليزيا، على مجمل إنجازاته، وأدعو الجميع أن يشاركوني في تحيته.