24 سبتمبر 2024
خطاب حضرة صاحب السمو أمير البلاد المفدى في الدورة الـ 79 للجمعية العامة للأمم المتحدة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحضور الكرام،
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
يطيب لي في البداية أن أهنئ سعادة السيد فيليمون يانغ على توليه رئاسة الدورة التاسعة والسبعين للجمعية العامة، متمنياً له التوفيق في مهامه، وأعرب عن التقدير لسعادة السيد دينيس فرانسيس، على جهوده في رئاسة الدورة السابقة، ونثمن الدور البارز الذي يقوم به سعادة السيد أنطونيو غوتيريش، الأمين العام لمنظمة الأمم المتحدة في تعزيز دورها وتحقيق أهدافها السامية.
السيد الرئيس،
إن ما يتعرض له الشعب الفلسطيني في قطاع غزة اليوم من عدوان سافر هو الأشد همجية وبشاعة والأكثر انتهاكًا للقيم الإنسانية والمواثيق والأعراف الدولية. ليست هذه حربًا بمفهوم الحرب المعروف والمتداول في العلاقات الدولية، بل هي جريمة إبادة بأحدث الأسلحة لشعب محاصر في معسكر اعتقال لا مهرب فيه من وابل القنابل الذي تلقيه الطائرات.
لقد استُنفذت القرارات والإدانات والتقارير، ولم يبق سوى الجريمة العارية المتواصلة مع سبق الإصرار، ومن دون روادع، وضحاياها من الأطفال والنساء وكبار السن.
نحن نعارض العنف والتعرض للمدنيين الأبرياء من أي طرف كان، ولكن بعد مرور عام على الحرب، ومع كل ما ارتُكب ويرتَكبُ فيها، لم يعد ممكنًا الحديث عن حق إسرائيل بالدفاع عن نفسها في هذا السياق من دون التورط في تبرير الجريمة. لم يعد بوسع أي مسؤول الادعاء أنه لا يعلم، فالحقائق معروفة والتقارير عن قصف المدارس والمستشفيات واستخدام الغذاء والدواء سلاحًا تصدر عن منظمات دولية، ونوايا القادة الإسرائيليين منشورة وتقال على رؤوس الأشهاد. ولذلك فإن عدم التدخل لوقف العدوان هو فضيحة كبرى.
السيدات والسادة،
في كل عام أقف على هذا المنبر وأبدأ كلمتي بالحديث عن قضية فلسطين، وغياب العدالة ومخاطر الاعتقاد أنه يمكن تجاهلها، وأوهام السلام من دون حلها حلًا عادلا. فعلتُ ذلك كلَّ عام في الوقت الذي باتت فيه قضية فلسطين تغيب عن خطابات ممثلي قوى رئيسية في عالمنا. ثمة من يغريه احتمال تهميش هذه القضية والاستراحة من همِّها أو زوالها من دون حلها. لكن قضية فلسطين عصية على التهميش، لأنها قضية سكان أصليين على أرضهم يتعرضون لاحتلال استيطاني إحلالي. وبات هذا الاحتلال يتخذ شكل نظام فصل عنصري في القرن الحادي والعشرين. فهل يمكن تجاهل ذلك؟ لن تزول قضية فلسطين إلا في حالتين، زوال الاحتلال، أو زوال الشعب الفلسطيني، ويبدو أن في إسرائيل من يمني النفس بالقضاء على هذا الشعب.
إن العدوان الإسرائيلي المستمر منذ قرابة عام ليس إلا محصلة غياب إرادة سياسية صادقة، وتقاعس دولي متعمد، عن حل القضية الفلسطينية حلًا عادلًا، وإصرار السلطات الإسرائيلية المحتلة على فرض الأمر الواقع على الفلسطينيين والعالم بكل أنواع القوة. لقد أطلقت الحرب الوحشية الجارية رصاصة الرحمة على الشرعية الدولية، وألحقت أضرارًا فادحة بمصداقية المفاهيم التي قام على أساسها النظام الدولي بعد الحرب العالمية الثانية.
وكأن النتائج الوخيمة لهذا النهج والماثلة أمام أعيننا لا تكفي لإثبات أن تجاهل الحل العادل يقود إلى الكارثة، نكتشفُ غير مصدقين أن البعض ما زال يحاول البحث عن تدابير مبتكرة لإدارة غزة بعد الحرب، بسلطة أو من دون سلطة، من منطلقات أمنية فحسب (والمقصود بالطبع أمن الاحتلال لا أمن الرازح تحت الاحتلال). إنها نفس طريقة التفكير التي قادت من كارثة إلى أخرى. إنه النهج الذي يريد تفصيل المنطقة كلها على قياس إسرائيل، ويبحث عن طرقٍ التفافيةٍ لتجنب إنهاء الاحتلال وفرض حكم شعب على شعب آخر بالقوة.
أيعقل أنه حتى بعد هذه الكارثة، لم تستنتج الدول الكبرى ذات القدرة على التأثير في سير الأحداث ضرورة وقف الحرب والتوجه إلى الحل العادل على الفور بدلًا من التفنن في الصياغات للتهرب منه؟
إن زوال الاحتلال وممارسة الشعب الفلسطيني حقه في تقرير المصير ليس منة أو مكرمة من أحد.
ومن المؤسف أن يفشل مجلس الأمن في تنفيذ قراره بوقف إطلاق النار في قطاع غزة، أو يمتنع عن منح دولة فلسطين العضوية الكاملة في الأمم المتحدة على الرغم من اعتماد الجمعية العامة في شهر مايو الماضي قرارًا يدعم طلب فلسطين لهذه العضوية.
ليس حصول دولة فلسطين على العضوية الكاملة في الأمم المتحدة تحقيقًا لسيادتها أو تصفية للاحتلال، ولكنه على الأقل يرسل رسالة لحكومة اليمين المتطرف الضالعة في تحدي الشرعية الدولية بأن القوة لا تلغي الحق. والحديث عن إضرار مثل هذه الخطوة بعملية السلام هو ذر للرماد في العيون، فلا يوجد شريك إسرائيلي للسلام في عهد الحكومة الحالية، ولا تجري عملية سلام، بل عملية إبادة. وفي هذا الصدد نثمن عاليًا موقف الدول التي اعترفت بدولة فلسطين على حدود عام 1967.
إن استمرار المأساة الإنسانية للشعب الفلسطيني الشقيق منذ أكثر من سبعة عقود ونصف يعد وصمة عار في جبين المجتمع الدولي ومؤسساته. ولا معنى لأي حديث عن الأمن والسلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط والعالم بأسره إذا لم ترافقه خطوات عينية تقود إلى الوقف الفوري لإطلاق النار وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي لكافة الأراضي العربية.
الحضور الكرام،
لا يخفى عليكم أننا أمام كارثة إنسانية في غزة والأراضي الفلسطينية الأخرى التي تتعرض لهجمات منسقة بين جيش الاحتلال والمستوطنين في محاولة لتطبيق خطط لتوسيع الاستيطان وضم الضفة الغربية وتهويد القدس.
يتحمل المجتمع الدولي تبعات ما يحدث للشعب الفلسطيني الشقيق الذي يتعرض لحرب إبادة ترتب عليها سقوط أكثر من 41 ألف شهيد حتى الآن عدا المفقودين تحت الأنقاض من بينهم 17 ألف طفل، و 11 ألف امرأة، ومائة ألف مصاب بينهم آلاف المصابين بإعاقة، وتشريد الملايين عدة مرات، وتدمير كامل للبنية التحتية من مستشفيات ومدارس ومباني، بما في ذلك المساجد والكنائس. خلال الإبادة الجماعية لأجزاء من الشعب الفلسطيني، تجري عملية تدمير مجتمع بأسره. إنه المجتمع الفلسطيني الغزي الذي حافظ على رقيِّه وحقق درجة مثيرة للدهشة من التطور في ظل حصار خانق ممتد منذ أكثر من سبعة عشر عامًا.
السيد الرئيس،
لقد اختارت دولة قطر الاضطلاع بجهود الوساطة سعيًا منها لوقف العدوان على غزة وإطلاق سراح الأسرى والمعتقلين. إنها وساطة في ظل حرب شرسة وظروف معقدة، لا يتورع خلالها طرف عن اغتيال القيادات السياسية التي يفاوضها، هكذا اغتيل إسماعيل هنية الذي يتناسى كثيرون أنه لم يكن القائد السياسي لحركة حماس فحسب، بل كان أيضًا أول رئيس وزراء فلسطيني منتخب.
الوساطة والعمل الإنساني هما خيارنا السياسي الاستراتيجي على المستوى الإقليمي والدولي، وواجبنا الإنساني قبل السياسي، ولا نمنن به أحدًا. وقد أثمرت جهود الوساطة التي بذلناها بالشراكة مع جمهورية مصر العربية والولايات المتحدة الأمريكية، بعقد اتفاق هدنة إنسانية في شهر نوفمبر الماضي، أدى إلى وقف مؤقت لإطلاق النار في قطاع غزة وإطلاق سراح 240 من الأسرى الفلسطينيين و 109 من المحتجزين في غزة، ورفع مستوى تدفق شحنات الإغاثة. كما قدمنا الدعم الإنساني للسكان المدنيين في قطاع غزة، وأسهمنا في إجلاء الجرحى والمرضى، ودعمنا المبادرات الإنسانية لإيصال المساعدات عبر كل الطرق المتاحة، ورفعنا أيضًا من مستوى دعمنا لوكالة الأونروا؛ هذه الوكالة الدولية التي لا يمكن الاستغناء عن خدماتها، والتي تعرضت إلى افتراءات لأسباب سياسية متعلقة برغبة حكومة إسرائيل في تصفية قضية اللاجئين من دون حل لقضية فلسطين. ولن تألو دولة قطر جهدًا في تقديم مختلف أشكال الدعم الإنساني للشعب الفلسطيني الشقيق حتى إنهاء هذه الأزمة.
وعلى الرغم من التحديات الجسيمة ومحاولات العرقلة، وما نتعرض له من افتراءات، نواصل جهدنا في التوسط لحل النزاعات بالطرق السلمية، فنحن ندرك أن أي نزاع لا يخلو من قوى معنية باستمراره، ومشككة بأي وساطة مهما كانت النوايا.
وسوف نواصل بذل الجهد مع شركائنا حتى التوصل إلى وقف إطلاق النار الدائم وإطلاق سراح الأسرى والمعتقلين، والتوجه إلى مسار الحل العادل وفقًا لقرارات الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية، وحصول الشعب الفلسطيني على كافة حقوقه المشروعة وفي مقدمتها دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية على حدود 1967.
إن قيام دولة فلسطينية مستقلة ضمن حل عادل ودائم هو في مصلحة الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني. ولن نصل إلى هذا الهدف إلا بوجود شريك جاد وواع بأهمية نبذ الخلاف وإنهاء الاحتلال وكل أشكال العدوان، حتى نصل معه سويا إلى السلام المنشود في الشرق الأوسط.
السيد الرئيس،
وفيما عدا ارتكاب جريمة كبرى بتفخيخ وسائل اتصال لاسلكية وتفجيرها بآلاف الناس في لحظة واحدة دون أخذ هويتهم أو مكان تواجدهم بالاعتبار، تشن إسرائيل حاليًا حربًا على لبنان ولا أحد يعلم إلى أي حد يمكن أن تتدهور هذه الحرب. وهو ما سبق أن حذرنا منه مراراً وتكراراً، إذا لم تتوقف الحرب الوحشية على غزة. يجب أن تتوقف هذه الحرب التدميرية المنهجية، وهذا خيار إسرائيل كما يعرف قادتها جيدًا. إنهم يعرفون أنها لن تجلب الأمن والسلام لشمال إسرائيل أو للبنان، وأن مفتاح الأمن هو السلام العادل. أوقفوا العدوان على غزة! أوقفوا الحرب على لبنان.
وفي اليمن الشقيق نتطلع إلى الحفاظ على هدنة عام 2022، والانطلاق منها نحو وقف شامل لإطلاق النار وتسوية الأزمة وضمان وحدة اليمن وتحقيق تطلعات شعبه الشقيق، وذلك من خلال التفاوض بين الأطراف اليمنية على أساس مخرجات الحوار الوطني والمبادرة الخليجية وقرارات مجلس الأمن ذات الصلة.
وإزاء الأزمة في سوريا، فإن موقف دولة قطر واضح منذ البداية وحريص على مصلحة الشعب السوري الشقيق، ونتطلع إلى أن تقتنع الأطراف والدول ذات الصلة بالأزمة بضرورة الحوار والتفاهم على إنهائها وفقًا لإعلان جنيف 1 وقرار مجلس الأمن 2254، وبما يُحقِّق تطلعات الشعب السوري، ويحافظ على وحدة سوريا وسيادتها واستقلالها.
وفي الشأن السوداني ندعو جميع الأطراف السودانية إلى وقف القتال، ونؤكد على دعمنا لكافة الجهود الإقليمية والدولية لإنهاء هذه الأزمة بما يضمن وحدة مؤسسات الدولة وسيادة السودان واستقراره.
وفي ليبيا ندعم المسار السياسي وتنفيذ قرارات مجلس الأمن، ونحث كافة الأطراف على العودة إلى الحوار وتجاوز الخلافات من أجل إتمام المصالحة الوطنية الشاملة والحفاظ على التقدم والمكاسب التي تحققت على المسارات الأمنية والسياسية والاقتصادية، وتوحيد مؤسسات الدولة.
لا يمكن للبلدان العربية أن تحقق الأمن والاستقرار من دون دول راسخة قادرة على التشريع وإنفاذ القانون، ووضع سياسات وطنية وتنفيذها، ولا يمكن أن ترسخ أي دولة وتستقر بوجود قوى مسلحة غير خاضعة لها. هذه أمور بديهية لا نقاش فيها.
السيدات والسادة،
لقد تسببت الحرب بين روسيا وأوكرانيا بمعاناة إنسانية كبيرة وآثار على أوروبا والعالم. ونحن نكرر دعوتنا لجميع الأطراف إلى تطبيق أحكام ميثاق منظمة الأمم المتحدة، وقواعد القانون الدولي، والعمل على إيجاد حل سلمي، بوصفه الحل الوحيد الممكن.
وفي هذا السياق وانطلاقًا من إيماننا الراسخ بمبدأ التسوية السلمية للنزاعات قدمنا خلال العام الماضي إسهامًا ملموسًا، حيث أدت الوساطة القطرية إلى تبادل للمحتجزين بين الولايات المتحدة وفنزويلا، كما تم لم شمل العشرات من الأطفال الأوكرانيين مع ذويهم بعد أن فرقتهم الحرب.
وختامًا نؤكد أن دولة قطر لن تدخر وسعًا في العمل مع شركائها الدوليين ومنظمة الأمم المتحدة لتوطيد أركان السلم والأمن والتنمية المستدامة وحقوق الإنسان وسيادة القانون على جميع المستويات والتصدي للتحديات العالمية من أجل تحقيق مستقبل أفضل للجميع.
أشكركم والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.